حديث معاذ وموقف الشاطبي منه وخلاصة القول في المسألة:
وإذا كان الأمر كذلك فقد نحي حديث معاذ من الاستدلال علي تأخر السنة عن الكتاب من حيث الحجية ، بل إن الإمام الشاطبي الذي عد هذا الدليل من أقوي الأدلة في تلك القضية يقول:"وقد تكلم الناس في حديث معاذ ورأوا أنه علي خلاف الدليل ، فإن كل ما في الكتاب لا يقدم علي كل السنة ، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب ، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ، لذلك وقع الخلاف وتأولوا التقديم في الحديث علي معني البداية بالأسهل والأقرب وهو الكتاب ، فإذا كان الأمر علي هذا فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب ، بل المتبع الدليل (1)
وهذا التأويل الذي أول به الشاطبي حديث معاذ يشهد له الواقع ويؤيده ، فإن السنة لم تكن مكتوبة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن ابن مسعود وابن عباس ، وإنما كانت متناثرة عند من تحملها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مختلفون في درجات التحمل كثرة وقلة وعلي حسب ملازمتهم للرسول صلى الله عليه وسلم واستعدادهم للتحمل ، ولا سيما أن السنة وقت بعثة الرسول لمعاذ لم تكن قد حددت معالمها ولا القرآن قد انتهي نزوله ، وهذا يضعف الحديث ويبعده(2)
أما بالنسبة للأثر وهو قول عمر رضي الله عنه وأرضاه لشريح:"إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله فقد قال عنه الزركشي:" إسناده صحيح"(3) ولكن يمكن درءه بنفس التأويل الذي أول به حديث معاذ أنفا.
بيان أن الخلاف في المسألة اعتباري :
يتلخص الموقف بين الفريقين في أن الخلاف في رتبة السنة من الكتاب الكريم ليس خلافا في السنة من حيث إنها سنة، وإنما هو صورة خلاف نشأ نتيجة طول السند بين الناظر في الحديث المروي عن الرسول وبين الرسول نفسه.
فالذين يقدمن الكتاب علي السنة ، هم الذين ينظرون إلي متون الأحاديث وسندها ورجال السند ، فيقدمون تبعا لذلك القران الكريم ، لأنه متواتر اللفظ ، يفيد العلم الضروري بأنه من قبل الله تعالي ، علي مجموع السنة بالاعتبار نفسه سيما وأن متواتر اللفظ منها نادر، وخاصة في الأحكام الشرعية التكليفية ، ولهذا فهم قائلون بتساوي السنة المتواترة في الرتبة- إن وجدت- مع الكتاب لتواتر السند فيهما.
أما الذين يجعلون السنة في رتبة الكتاب الكريم فإنهم ينظرون إلي السنة نظرة تختلف عن نظرة غيرهم ، إذ ينظرون إلي الدلالات المستفادة من النصوص باعتبارها ثمرات الأدلة ، لا إلي متون الأحاديث وسندها ورجال السند"(4)
كما يقولون إن كون السنة المتواترة نادرة لا يفيد ذلك شيئا في صحة الدعوي العامة، بل لو فرضنا عدم وجودها بالكلية وجب علينا أن نفرض وجودها ونفصل في القاعدة علي مقتضي هذا الفرض لأنه ممكن الحصول(5)
وجملة القول :"إن السنة النبوية إذا ثبتت تكون منزلتها ومنزلة الكتاب سواء بسواء في الاعتبار عند المجتهدين عامة(6).
(1) الموافقات 4/7
(2) انظر المدخل للتشريع الإسلامي للنبهان ص 199، السنة النبوية ومكانتها في التشريع ص189
(3) المعتبر في تخريج أحاديث المختصر ص222
(4) السنة النبوية ومكانتها في التشريع 190، 191
(5) حجية السنة ص489، 490
(6) منزلة السنة من الكتاب ص 481