رجال حول الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم )
...
..
.
إنه صهر عبدالله بن حرام, إذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..
وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة, وسيدا من سادات بني سلمة..
سبقه إلى الإسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين, أصحاب البيعة الثانية..
وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للإسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..
وكان من عادة الناس هناك أن أيتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها, والتي تؤمّها جموع الناس..
واتفق عمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..
فكانا يدلجان عليه ليلا, ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..
ويصيح عمرو فلا يجد منافاً في مكانه, ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:
ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟
ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..
فإذا جاء ليل جديد, صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.
حتى إذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: إن كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!
فلما أصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا, بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا, بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.
وإذا هو في غضبه, وأسفه ودهشه, اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا إلى الإسلام .. وراحوا, وهم يشيرون بأصابعهم إلى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت, يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده, محدثينه عن الإله الحق, العلي الأعلى, الذي ليس كمثله شيء.
وعن محمد الصادق الأمين, الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي, لا ليضل..
وعن الإسلام , الذي جاء يحرر البشر من الأغلال, جميع الأغلال, وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.
وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..
وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه, وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق, وتألق, وذهب عالي الجبهة مشرق النفس, ليبايع خاتم المرسلين, وليأخذ مكانه مع المؤمنين.
قد يسأل سائل نفسه, كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الإيمان..؟
وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم, حتى مع إسلامهم وتضحياتهم, من عظماء الرجال..؟
ومثل هذا السؤال يبدو إيراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..
لكن في أيام خلت, كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!
وحسبنا لهذا مثلا أثينا..
أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..
أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الألباب, كان أهلها جميعا: فلاسفة, وحكاما, وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!
ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة, لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...
أسلم عمرو بن الجموح قلبه, وحياته لله رب العالمين, وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء, فان الإسلام زاد جوده مضاء, فوضع كل ماله في خدمة دينه وإخوانه..
سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:
من سيّدكم يا بني سلمة..؟
قالوا: الجدّ بن قيس, على بخل فيه..
فقال عليه الصلاة والسلام:
وأي داء أدوى من البخل!!
بل سيّدكم الجعد الأبيض, عمرو بن الجموح..
فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح, أي تكريم..!
وفي هذا قال شاعر الأنصار:
فسوّد عمرو بن الجموح لجوده وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا
إذا جاءه الســـــؤال أذهب ماله وقال: خذوه, انه عائــــــد غدا
وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله, أراد أن يجود بروحه وبحياته..
ولكن كيف السبيل؟؟
إن في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.
وانه له أربعة أولاد, كلهم مسلمون, وكلهم رجال كالأسود, كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو, ويثابرون على فريضة الجهاد..
ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج, يأمره به إذا هو لم يقتنع..
وفعلا, أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يعفيه من الجهاد كفريضة, وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..
بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.
وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل إليه أن يأذن له وقال له:
" يا رسول الله إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد..
ووالله إني لأرجو أن, أخطر, بعرجتي هذه في الجنة"..
وأمام إصراره العظيم إذن له النبي عليه السلام بالخروج, فأخذ سلاحه, وانطلق يخطر في حبور وغبطة, ودعا ربه بصوت ضارع:
" اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني إلى أهلي".
والتقى الجمعان يوم أحد..
وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..
كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة, ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..
كان يضرب الضربة بيمينه, ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى, كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه, ثم يصحبها إلى الجنة..
أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة, وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..
وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم, يعرف كيف يختار الأصحاب, وكيف يربّي الرجال..!!
وجاء ما كان ينتظر.
ضربة سيف أومضت, معلنة ساعة الزفاف..
زفاف شهيد مجيد إلى جنات الخلد, وفردوس الرحمن..!!
وإذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:
" انظروا, فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد, فإنهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين"..!!
ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد, تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين, بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.
وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما, نزل سيل شديد غطّى أرض القبور, بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية, فسارع المسلمون إلى نقل رفات الشهداء, فإذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:
" ليّنة أجسادهم..
تتثنى أطرافهم"..!
وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا, فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام, ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..
فوجدهما في قبرهما, كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا, ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..
أتعجبون..؟
كلا, لا تعجبوا..
فان الأرواح الكبيرة, التقية, النقية, التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها, قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل, وسطوة التراب..